البروفيسور عطاء الله أحمد فشار من الجزائر أستاذ باحث في فلسفة القانون والتاريخ والأمن الإنساني له عدة مقالات ومساهمات علمية وهو عميد سابق بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الجلفة ويرأس حاليا تحرير مجلة دراسات وأبحاث ورئيس مؤسسة المعارف للثقافة والفنون وتنمية المجتمع
أيضًا هناك فقهاء من الغرب أقروا بفضل الإسلام على القانون الدولي العام، منهم “فيتو ريا” و”سو ارس” والبارون “ميشيل دي توب” أستاذ القانون الدولي بمعهد الدراسات الدولية بلاهاي بهولندا، حيث ذكر الكثير من القواعد والأحكام التي سبق الإسلام بها القانون الدولي؛ وعلى الأخص في نظم الحرب، وأورد وصية أبي بكر لجنوده، وذلك في الجزء الأول من مجموعة دراسات سنة 1926م لأكاديمية القانون الدولي، كما أورد الأوامر التي أصدرها في قرطبة الخليفة الحاكم بن عبد الرحمن في هذا الشأن سنة 963م أي قبل أن تعمل الكنيسة البابوية للسلام، ومنهم أيضًا المؤرخ “سيد يو” في كتابه تاريخ العرب ص152، حيث عدّد الكثير من فضل الإسلام على الحضارة الغربية، وعلى الأخص في القانون الدولي.
وقد أفاض فقهاء الشريعة الإسلامية في كتب السير وكتب الجهاد، في شرح وبيان قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني الواردة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والسيرة النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين ومن تبعهم وسار على نهجهم. وقد سبق أن تجدثنا عن الفقيه محمد بن الحسن الشيباني وكيف وضع قواعد للقانون الدولي الإنساني في كتابه السير الكبير واليوم سنتكم عن شخصيتين أيضا هما: عبد الرحمان الأوزاعي وفي الوقت الحديث والمعاصر الأمير عبد القادر الجزائري
أولا :الإمام عبد الرحمن الأوزاعي وأثره الفكري في العلاقات الدولية والقانون الدولي الإنساني
يُعد الإمام عبد الرحمن الأوزاعي (707-774م) واحدًا من أبرز أعلام الفكر الإسلامي في العصر الأموي. ولد في بعلبك ونشأ في بيروت، واشتهر بعلمه الغزير واجتهاداته الفقهية التي أثرت بشكل كبير في قضايا السلم والحرب والعلاقات الدولية، مما يجعله من أوائل المفكرين الذين وضعوا أسسًا للقانون الدولي الإنساني من منظور إسلامي.
الأوزاعي ومبادئ العلاقات الدولية
ركز الأوزاعي في فكره على القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية في التعامل بين الأمم، مؤكدًا على ضرورة تحقيق العدل والرحمة حتى في أوقات النزاعات. ويمكن تلخيص أثره الفكري في العلاقات الدولية فيما يلي:
1 الالتزام بالعهود والمواثيق
رأى الأوزاعي أن احترام العهود والمواثيق الدولية واجب شرعي لا يجوز خرقه، حتى مع الأعداء. كان يؤكد أن الالتزام بالاتفاقات جزء من القيم الإسلامية التي تُظهر عدالة الإسلام.
ففي إحدى فتاويه، أفتى بضرورة الوفاء بعهود الأمان التي تمنحها الدولة الإسلامية حتى لو كانت في حالات الضعف، مستندًا إلى قوله تعالى: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا” (الإسراء: 34)
2. حماية المستأمنين والمعاهدين
أكد الأوزاعي على وجوب حماية حقوق غير المسلمين من المستأمنين والمعاهدين الذين يعيشون تحت حماية الدولة الإسلامية، ورأى أن أي اعتداء عليهم يُعدُّ خيانة للعهود.
فعندما أراد والي بيروت في عهده إخراج أهل الذمة من المدينة بحجة الحرب، وقف الأوزاعي ضد هذا القرار بشدة وكتب رسالة إلى الخليفة يحثه فيها على الالتزام بالعدل وعدم الظلم.
3. حسن معاملة الأسرى
اشتهر الأوزاعي بموقفه الإنساني تجاه الأسرى، إذ شدد على معاملتهم بكرامة، وتوفير احتياجاتهم الأساسية، ومنع أي إساءة لهم. كان يرى أن الأسرى بشر يستحقون الرحمة، حتى وإن كانوا أعداء.
لقد حرصت على توضيح قواعد الحرب في الإسلام كي يدرك المجتمع الدولي أن الإسلام لم يتأخر يومًا عن قيادة ركب الحضارة، فأبناء احضارتنا علموا أوروبا الحضارة بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء، ويكفينا شهادة الله في كتابه الكريم {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}، وقد سبق فقهاء الإسلام إلى وضع قواعد الحرب في الإسلام كاملة قبل أن ينص القانون الإنساني الدولي على الكثير من بنودها، فالفقيه محمد أبي الحسن الشيباني أول من وضع قواعد ومبادئ وأحكام هذا العلم في كتابيه السير الكبير والسير الصغير، وتكريمًا له أنشئت في ألمانيا جمعية تحمل اسمه واليوم نضيف الحديث عن شخصيات أخرى مثل عبد الرحمان الأوزاعي وفي عصرنا شخصيات كثيرة مثل الأمير عبد القادر الجزائري وغيره من القادة
وقد أفتى الأوزاعي بضرورة إطعام الأسرى وإيوائهم، مستندًا إلى قوله تعالى: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” (الإنسان: 8)
4. تحريم الغدر والتمثيل بالقتلى
كان الأوزاعي يرفض تمامًا أي ممارسات تنطوي على الغدر، التمثيل بجثث القتلى، أو الانتقام بطريقة غير مشروعة. كان يرى أن مثل هذه الأفعال تضر بكرامة الإنسان وتتعارض مع القيم الإسلامية.
ففي رسائله الفقهية، أكد الأوزاعي على أن الغدر حرام شرعًا، وأن الحروب يجب أن تُدار وفقًا لقيم العدل والإنسانية.
الأوزاعي والقانون الدولي الإنساني
على الرغم من أن مصطلح “القانون الدولي الإنساني” لم يكن موجودًا في عصره، إلا أن الأوزاعي قدّم مفاهيم يمكن اعتبارها أسسًا لهذا القانون، مثل:
التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين: أكد الأوزاعي على وجوب حماية المدنيين وعدم استهدافهم أثناء الحروب.
احترام الممتلكات: رفض الأوزاعي الاستيلاء على ممتلكات المدنيين أو تدميرها دون ضرورة عسكرية.
مساعدة المحتاجين أثناء الحرب: دعا إلى تقديم المساعدة الإنسانية للجرحى والأسرى، بغض النظر عن انتمائهم.
أثره الفكري في العصر الحديث:
أصبحت أفكار الأوزاعي مصدر إلهام للعديد من الفقهاء والمفكرين، كما يُستشهد بها في الدراسات التي تُبرز تأثير الشريعة الإسلامية في تطوير القانون الدولي الإنساني. تُظهر كتاباته ورسائله كيف يمكن للشريعة أن تكون إطارًا أخلاقيًا للتعامل بين الدول والشعوب. تحدث الأوزاعي عن السير إلا أنه كان في نطاق محدود من القضايا. وكانت أشبه بالمحاولات الأولى بالنسبة للبحث الشامل المفصل الذي كتبه الإمام محمد الشيباني.
ويعد كتاب سير الأوزاعي الذي رواه الإمام الشافعي في الأم والرد عليه للإمام أبي يوسف من أسبق كتب السير لكنهما يتحدثان عن عدد قليل جدا من المسائل وهي الغنيمة وقسمتها والسرقة منها، وإقامة الحدود في دار الحرب وبعض أحوال المسلمين إذا أدخل هذه الدار وأحوال المستأمنين إذا دخل دار الإسلام وذبيحة المرتد وأسر الصبي والمدبرة وأم الولد والجارية.
وقد تحدث الإمام الأوزاعي عن العلاقة بين المسلمين وغيرهم وقت السلم والحرب. وقد استقر إلى أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلم، وأن الحروب ليست غاية في ذاتها فعالمية الإسلام قامت على أسس وطيدة من المساواة والتعاون والتآلف والعدالة وحماية الفضيلة بين الناس جميعاً، وهذه الأسس تفرض أن تكون العلاقات الإنسانية طابعها المودة والتكافل والإخاء، وتدل على أن الحرب لا تكون مشروعة إلا لحماية الأمة من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وعلاقة المسلمين مع غيرهم في وقت السلم وإن تلاقت عند أصول كلية عامة إلا إنها تختلف اختلافاً جزئياً، نظراً لاختلاف أحوال غير المسلمين مع المسلمين.
ويرى الإمام الأوزاعي أن الحرب في الإسلام تنحصر في تحرير الناس من الطغاه فلا يكون في الأرض سلطان غير سلطان الحق تبارك وتعالى. وبذلك لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ولأن غاية الحرب الإسلامية هي تحقيق الحرية الدينية فإن الإسلام قد لطف من حدتها وجعل لها قانوناً عادلاً ونظاماً محكماً. وأكثر ما يسجل له من أمرها أنه لم يشرعها لنيل المغانم وفرض المغارم. ولكنه جعلها وسيلة عند الضرورة لنشر كلمة الله بين الأمم.
وأول ما يجب على المسلمين إذا ساروا إلى غيرهم أن لا يبدأوا هم بالحرب أو الاعتداء لأنهم لم يسعوا رغبة في القتال لذاته، فهم أصحاب دعوة وليس عليهم إلا البلاغ. ومن هنا كان واجباً أن يسبق الحرب أمران الأمر الأول: البدء بالدعاء إلى الإسلام. فإذا استجاب هؤلاء طوعاً واختياراً فهم إخواناً للمسلمين. وإن أبوا ولم يستجيبوا فإن على المسلمين أن يدعوهم إلى الأمر الثاني. وهو أن يدخلوا مع المسلمين في عهد وميثاق. فإن أبوا وجاهروا بهذا الرفض بالعداء وأمعنوا في الضلال كان قتالهم في هذه الحالة تحريرا للناس من التسلط والقهر.
وبهذا يتضح أن الحرب في الإسلام ضرورة وأنها تخضع لقانون العدل واحترام آدمية الإنسان وليست سبيلاً لاستغلال الشعوب ونهب ثرواتها، وهي في جوهرها تحقق السلم الدائم بين الناس لأنها تنقذهم من تجار الحروب والطغاة الذين يكرهونهم على ما لا يبتغون.
ويتضح أيضاً أن أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم السلم، وأن نظرة الإسلام إلى غير المسلمين لا تعرف العداء والتعصب والكبرياء وأنها تقوم على التسامح والتعاون والإخاء، وعلى احترام العهود والوفاء بها مهما تكن الظروف والأسباب.
وفي مجال أحكام الحرب والسلم أيضاً، كان الأوزاعي ذو فتاوى موضوعية ودقيقة لنزعته الإنسانية، التي تعتبر البشر جميعاً عائلة واحدة، تعيش أو ينبغي أن تعيش في ظل العدالة والمساواة. فقد حرم التعرض للفلاحين والرعاة والرهبان والعجزة وأصحاب الصوامع في وقت الحرب، إلا إذا اشتركوا فعلا في القتال، كما حرم التعرض للصغار والنساء حتى ولو تمترسوا بهم الأعداء، بل انه منع التعرض لأي موقع قد يكون فيه بعض هؤلاء.
كما قضى بعدم جواز تخريب شيء من أموال العدو وحيواناته وأشجاره، وكان يستند بذلك إلى تعليمات خلفاء المسلمين إلى قادة الجيوش الإسلامية، وبخاصة بيان خليفة المسلمين أبو بكر الصديق الذي وجهه إلى يزيد بن معاوية، عندما كان في طريقه إلى بلاد الشام، وأوصاه فيه بعدم قتل الأفراد المدنيين العزل غير المحاربين، ولا سيما الصغار والنساء والشيوخ، وبعدم قطع الأشجار المثمرة أو حرقها، ولا يخربوا موضعا عامرا، وأن لا يعقروا شاة أو بعيرا إلا لمأكله، ولا يحرقوا نخلة.
إن الإمام عبد الرحمن الأوزاعي كان عالمًا متميزًا تجاوز بفكره حدود عصره، حيث وضع أسسًا للمبادئ الإنسانية في العلاقات الدولية والحروب. أفكاره ليست مجرد اجتهادات فقهية، بل هي مساهمات حقيقية تُظهر عظمة القيم الإسلامية في إرساء السلام وحفظ كرامة الإنسان.
ثانيا الأمير عبد القادر الجزائري:
الأمير عبد القادر مؤسس القانون الدولي الإنساني بدون منازع:
إنَّ الكثيرًا من الشواهد تتيح الاعتقاد بأنَّ الأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883) كان أول من أرسى قواعد القانون الدولي الإنساني الحديث، وأول من بادر بتدوينه، لا سيما في مجال حماية أسرى الحرب.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إنَّ المرسوم الذي أصدره في العام 1843 بخصوص القواعد الناظمة لتعاطي جنود وعساكر دولته مع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الفرنسي للجزائر، يشكل بحق أول عتبة للقانون الدولي الإنساني الحديث لما تضمنه من قواعد ومبادئ، فضلًا عن مثل ومقاصد شكلت في ما بعد الأسس التي بنيت عليها الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، لا سيما في مجال أنسنة الحرب
ومن ثم يعد الأمير عبد القادر أول من قام بوضع أسس القانون الدولي الإنساني منذ عام 1837، وهذا حتى قبل ظهور أفكار هنري دينون مؤسس حركة الصليب الأحمر ، بل حتى قبل إبرام معاهدة جنيف التي لم تكتمل إلا في عام 1864 ، ويحفظ التاريخ للأمير عبد القادر الكثير من المواقف الإنسانية الرفيعة فقد عمل أثناء معاركه ضد الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر على سن وتطبيق مجموعة من القوانين حول كيفية معاملة الأسرى والمعتقلين من جيش العدو ومن ذلك اعتبار أن أي فرنسي يتم أسره في المعارك يجب أن يعتبر أسير حرب وان يعامل كذلك إلى أن تتاح فرصة تبادله مقابل أسير جزائري كما حرم تحريما قاطعا قتل أسير أعزل ؛ كما أكد أن أي عربي يقدم أسيرا فرنسيا يحصل على مكافأة قدرهاب ب:( 08 دورو) وجدد الأمير أنه على أي عربي في حوزته أسير فرنسي أن يعامله معاملة حسنة وفي حالة شكوى الأسير من سوء المعاملة ليس فقط أن المكافأة تسقط بل قد يرافق ذلك بعقوبات أخرى.
وقد أفرد الإنجليزي تشرشل الفصل السادس عشر من كتابه عن حياة الأمير عبد القادر لذكر حسن معاملة الأمير للأسرى الفرنسيين وبذلك كانت العناية الحكيمة والعاطفة الرحيمة التي أبداها الأمير للأسرى مثالا حيا لحسن التعامل وهذا ما أرادت أن تصل إليه بنود القانون الدولي الإنساني المعاصر.
أولا:التعريف بالأمير عبد القادر فقيها متصوفا وسياسيا وأميرا :
يعتبر الأمير عبد القادر الجزائري من كبار رجال الدولة الجزائرية ، فهو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورائد مقاومتها ضد الاستعمار الفرنسي بين 1832 و 1847. كما يعد أيضا من كبار رجال التصوف والشعر وعلماء الدين . فقد كان داعية سلام وتآخي بين مختلف الأجناس والديانات وهو ما فتح له باب صداقات وإعجاب كبار السياسيين في العالم
هو عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى أشتهر باسم الأمير عبد القادر الجزائري .ولد يوم الجمعة 23 رجب 1222هـ/1807م بقرية القيطنة الواقعة على وادي الحمام غربي مدينة معسكر، وترعرع في كنف والديه حيث حظي بالعناية والرعاية في مجالي التعليم والتربية الإسلامية الرفيعة.
وقد توفي الأمير عبد القادر يوم 26 ماي 1883 في دمر ضواحي دمشق عن عمر يناهز 76 سنة، دفن بجوار ضريح الشيخ محي الدين بن عربي الأندلسي، نقل جثمانه إلى الجزائر في عام 1966.
ومن من مؤلفاته :
-1/ ذكرى العاقل وتنبيه الغافل.
-2/ المقراض الحاد (لقطع اللسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد.
-3/ مذكرات الأمير عبد القادر.
-4/ المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد
أنسنة الحرب في دولة الأمير عبد القادر: أنسنة الحرب
إن سمُو السلوكيات الأخلاقية والمنظومة القيمية التي أسَّس لها الأمير عبد القادر لم تتجلَّ في الأساليب النبيلة في التعامل مع أسرى الحروب التي خاضها فحسب، وإنَّما أيضًا في عقيدة جيشه القتالية وطرق تواصله مع خصومه وأعدائه، الذين بقدر ما قارعهم ببسالة القتال وشهامة الفرسان، فإنَّه قارعهم بحجة الأخلاق الرفيعة وقوَّة الخطاب الإنساني الذي لا يعتدي على إنسانية العدو ولا يجرح عقيدته ولا يمس بمقدساته.
لقد سعى الأمير عبد القادر المتشبِّع بأحكام الدين الإسلامي الحنيف والمقتفي للهدي النبوي الشريف، ونجح بالفعل، في التأسيس لفكرة أنسنة الحرب وأخلقة القتال.
وهنا يطرح السؤال : هل طبق الأمير في مواقفه العملية ما أعلنه في مواقفه العرفانية ؟
الجواب بكل تأكيد : نعم. وأكتفي بالإشارة إلى حوادث في حياته بمراحلها الثلاثة : الجهاد ثم السجن ثم الاستقرار في الشام.
أما خلال جهاده البطولي الطويل الذي دام خمس عشر ة سنة، فحتى أشرس أعدائه اعترفوا بوسع رحمة إنسانيته ومثالية معاملاته خصوصا مع الأسرى والمغلوبين والمستضعفين، حتى أن السفاح الجنرال بيجو يشبهه في إحدى رسائله بالمسيح. قصده مرة أحد الأساقفة الفرنسيين للتفاوض معه قصد إرسال رجل دين لخدمة الأسرى من الجنود المسيحيين، فيستجيب الأمير لطلبه ويضيف قائلا : ” إنني متأكد من أنّ عملي هذا يرضي ربي إذ أتيح لبعض عباده ذكر ربهم واتباع شرائع دينهم، لأن كل فرد يتبع دين آبائه، والله يحب العباد الصالحين “
وحتى تحت وطأة شماتة الأعداء الذين نكثوا عهدهم فَعوَض َتركه حرا ليذهب إلى المشرق عند ما وضع حدا لكفاحه سجنوه مع أمه العجوز ونحو المائة من رفقائه الأوفياء، مات منهم نحو الخمسة والعشرين في الاعتقال، رغم تلك الشدائد المرّة لم تتغير سماحة هذا الشهم أمير الجهادين الأصغر والأكبر، وإلى ذلك يشير الجنرال دو ماس الذي كان مكلفا بحراسته في السجن في رسالة بعثها إلى أسقف الجزائر ” دو بوش ” الذي كانت له مع الأمير مراسلات، فيخاطبه قائلا يصف حالة الأمير في السجن : [… إنك ستجده أعظم وأجل في محنته منه في عزه، انه ما يزال كما عرف عنه يسموا إلى أعلى الدرجات. إنك ستجده معتدلا بسيطا جذابا متواضعا ثابتا لا يشكوا أبدا، معتذرا لأعدائه – حتى أولئك الذين ما زال يمكن أن يعاني على أيديهم كثيرا – ولا يسمح أبدا أن يذكروا بسوء في حضرته. ورغم أنه قد يشكوا عن حق من المسلمين أو المسيحيين، فإنهم سواء يجدون منه الصفح…] هذا ومن المشهور الموقف الشجاع لفتوة الأمير حين تزعم المهاجرين الجزائريين في الشام لإنقاذ ما يربو على خمسة عشر ألف مسيحي من القتل في الفتنة التي اشتعلت في دمشق بين الدروز والنصارى سنة 1860 ووقف متحديا جموعا هائجة مندفعة لقتلهم ودوَّى بصوته قائلا : [ إن الأديان وفي مقدمتها الدين الإسلامي أجل وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول طيش أو صرخات بذالة تدوي بها أفواه الحثالة من القوم… أحذركم من أن تجعلوا لسلطان الجهل عليكم نصيبا، أو يكون له على نفوسكم سبيلا
وخطابه الحازم هذا ما كان إلاّ تطبيقا للحديث النبوي الشريف : ألا من ظلم معاهدا أو ذميا أو أحدا من أهل الكتاب أو كلفه فوق طاقته أو أنقصه شيئا من حقه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا خصمه يوم القيامة.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إنَّ المرسوم الذي أصدره في العام 1843 بخصوص القواعد الناظمة لتعاطي جنود وعساكر دولته مع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الفرنسي للجزائر، يشكل بحق أول عتبة للقانون الدولي الإنساني الحديث لما تضمنه من قواعد ومبادئ، فضلًا عن مثل ومقاصد شكلت في ما بعد الأسس التي بنيت عليها الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، لا سيما في مجال أنسنة الحرب وضرورة معاملة الجنود غير القادرين على القتال، أسرى كانوا أم مصابين، معاملة إنسانية دون أي تمييز.
ريادة في معاملة الأسرى:
تبقى مواقف الأمير عبد القادر الإنسانية مع الأسرى علامة فارقة لما كان لها من أثر بالغ في ترسيخ أخلاق الحرب وحقوق الإنسان في التاريخ الحديث. ففي سعيه الدؤوب إلى أنسنة الحرب وتخفيف آلام الأسرى لم يكتفِ الأمير عبد القادر بسنِّ قواعد قانونية ذات صلة فحسب (مرسوم سنة 1843)، لكنه أسَّس لممارسات وأعراف ثابتة في إطار سياسة متكاملة للقانون الإنساني، نجدها اليوم مكرَّسة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، لا سيما الاتفاقية الثالثة.
وفضلًا عن احترامه الشديد للقناعات الدينية للأسرى على اختلافه معها، إذ لم يكن يقبل أبدًا أن يُرغَم أسير على تغيير دينه تحت وطأة الخوف والتهديد، فإنَّ الأمير عبد القادر كان سبَّاقًا لسنِّ مبدأ زيارة القسِّ (رجل الدين) للأسرى والمساجين، ليس بغرض تمكينهم من ممارسة صلواتهم وطقوسهم الدينية فحسب، بل وكذلك لتمكينهم من التواصل، من خلال رجل الدين، مع ذويهم وعائلاتهم والحصول على كل ما قد يخفف من وطأة أسرهم من مال وملابس وكتب وغيرها.
لقد سبقت بذلك الرِّسالة الشهيرة التي بعث بها الأمير عبد القادر إلى الأسقف ديبيش سنة 1841 اتفاقيات جنيف بقرن كامل من الزمن في التأكيد على حقوق الأسرى في الزيارة وحرية ممارسة الشعائر الدينية والتواصل مع الأهل وغيرها (حقوق مكـرَّسة في المواد 34، 38، 71 من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949). كما لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال عند التطرُّق إلى فكر الأمير في معاملة الأسرى، إغفال رفضه الشديد لفكرة «مبادلة الأسرى باعتبارهم سلعة في سوق الحرب».
لقد كان الأمير عبد القادر يحرِّر الأسرى احترامًا لإنسانيتهم وصونًا لحقوقهم كبشر، لا باعتبارهم سلعة قابلة لأبشع صور الاستغلال والمساومة، وهو ما تجلى في موقفين للأمير أثارا إعجاب أعدائه قبل أصدقائه، وسجلهما بذلك التاريخ بأحرف من ذهب:
أوَّلهما في العام 1841، عندما أمر الأمير عبد القادر بكل شهامة ومروءة بالاستمرار في إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين الذين كانوا بحوزته تنفيذًا لاتفاق مبادلة أسرى مع جيش الاحتلال الفرنسي، على الرُّغم من أنَّ هذا الأخير أخلَّ بتعهداته وتملَّص من الاتفاق برفضه إطلاق سراح الأسرى الجزائريين. وثانيهما عام 1842، حين أمر الأمير عبد القادر بإطلاق سراح الأسرى الفرنسيين بدل قتلهم، بعدما لم يجد من الطعام ما يطعمهم به. وهو الأمر الذي أثار إعجاب السفاح الماريشال سانت أرنو الذي اعترف بأنَّ الأمير عبد القادر أعاد له كل الأسرى الذين كانوا بحوزته من دون شرط وبدون تبادل، على الرُّغم من أنه كان قادرًا على التخلُّص منهم.
من بصمات الأمير عبد القادر الجزائري في القانون الدولي الإنساني
الأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883م) شخصية فذّة ومثال حيّ على الزعامة الأخلاقية والإنسانية، تميز عن غيره من القادة في ذلك الوقت بتطبيقه المبكر لمبادئ القانون الدولي الإنساني، مما جعله نموذجًا حضاريًا.
الأمير عبد القادر الجزائري، هو رمز من رموز القانون الدولي الإنساني، وقائد عسكري بارع عرف بروح التسامح والرأفة التي أظهرها تجاه المدنيين والأسرى أثناء الحروب التي خاضها. كان له دور كبير في تأسيس قواعد القانون الإنساني الدولي وتعزيزها في النزاعات المسلحة.
يعتبر الأمير عبد القادر قدوة في التعامل الإنساني مع الأعداء والمجاهدين، حيث كان يشجع على العفو والتسامح ويحث على معاملة الأسرى والمدنيين بكرامة وإنسانية. قام بإصدار تعليمات صارمة لجنوده بضرورة احترام حقوق الإنسان حتى في أقسى حالات الحرب.
تأثير الأمير عبد القادر على القانون الإنساني الدولي لا يقتصر فقط على فترة حكمه في الجزائر، بل امتدت تلك القيم والمبادئ التي نشرها إلى أجيال لاحقة من القادة والمفكرين في مختلف أنحاء العالم. يعتبر تقدير الحقوق الإنسانية وحمايتها جزءاً لا يتجزأ من تراثه الإنساني الذي لا يخلط بين الدين والسياسة.
في النهاية، يجب أن نكون ممتنين لمساهمة الأمير عبد القادر في تعزيز القانون الإنساني الدولي ونشر قيم العدالة والتسامح في النزاعات المسلحة. إن إرثه الإنساني يجب أن يكون دافعاً لنا جميعاً للعمل نحو إحلال السلام والعدالة في العالم.
1. معاملة الأسرى
كان الأمير عبد القادر يُولي اهتمامًا خاصًا بمعاملة الأسرى من الجنود الفرنسيين. فقد حرص على معاملتهم بكرامة واحترام، وهو ما يخالف السلوك السائد في الحروب خلال تلك الحقبة. كان يأمر بتوفير الطعام والشراب لهم، ومنع أي شكل من أشكال التعذيب أو الانتقام، تجسيدًا للقيم الإسلامية التي تحث على الإحسان حتى في حالات العداء.
واقعة شهيرة: أثناء إحدى معاركه ضد الجيش الفرنسي، أمر الأمير جنوده بعدم قتل الجنود الجرحى وأسرهم بدلًا من ذلك، مشددًا على ضرورة العناية بهم كما يُعتنى بالمقاتلين الجزائريين.
2. الحرية الدينية للأسرى
احترم الأمير عبد القادر الحرية الدينية للأسرى الفرنسيين، فلم يجبرهم على اعتناق الإسلام أو ممارسة شعائره. بل وفر لهم بيئة تتيح لهم ممارسة دينهم بكل حرية.
شاهد: في إحدى الرسائل التي أرسلها إلى قادة جيشه، شدد على ضرورة احترام الأسرى في جميع النواحي، بما في ذلك ديانتهم وحقهم في ممارسة شعائرهم.
3. معاملة الأمير للمرأة الأسيرة
تميز الأمير بمعاملته الاستثنائية للنساء الأسيرات. لم يسمح بأي انتهاك لكرامتهن أو التعرض لهن بأي أذى. كان يُعلي من شأن المرأة حتى في ظروف الحرب، معتمدًا على التعاليم الإسلامية التي تصون حرمة النساء.
واقعة: بعد إحدى المعارك، وقع عدد من النساء الفرنسيات في الأسر، فأمر الأمير بإعادتهن إلى عائلاتهن دون أي شروط، مما أثار إعجاب الفرنسيين أنفسهم.
4. معاملة ذوي الرتب من الأسرى
كان الأمير عبد القادر يُظهر احترامًا خاصًا لذوي الرتب العسكرية من الأسرى، حيث عاملهم وفقًا لمكانتهم ورتبهم. هذه المعاملة تعكس وعيه بأهمية التمييز في المعاملة وفقًا للأخلاقيات العسكرية.
شاهد: عندما وقع أحد الضباط الفرنسيين الكبار في الأسر، أمر الأمير بإطلاق سراحه دون أي مقابل، تعبيرًا عن احترامه للقيم الإنسانية.
5. احترام الأمير للعهود والمواثيق
كان الأمير عبد القادر معروفًا بالتزامه التام بالعهود والمواثيق، سواء كانت مع خصومه أو حلفائه. لم يكن يتراجع عن اتفاق أو يُخلف وعدًا، مما أكسبه احترام أعدائه قبل أصدقائه.
واقعة: بعد توقيع معاهدة “تافنة” مع الجنرال بيجو عام 1837م، التزم الأمير بشروط المعاهدة بكل دقة رغم انتهاكات الجانب الفرنسي لاحقًا.
6. الأمير والتسامح الديني
تبنى الأمير عبد القادر مبدأ التسامح الديني في كل أفعاله. لم يكن تمييزه بين الناس مبنيًا على الدين، بل على الأخلاق والإنسانية.
شاهد: أثناء نفيه في سوريا، لعب الأمير دورًا بارزًا في حماية المسيحيين أثناء فتنة طائفية عام 1860م. أطلق سراح آلاف المسيحيين، وفتح منازله لإيوائهم، مما جعله موضع إشادة عالمية من شخصيات مثل نابليون الثالث والبابا بيوس التاسع.
خاتمة
الأمير عبد القادر الجزائري هو نموذج نادر للزعامة الإنسانية التي تجمع بين القوة والرحمة، وبين الدفاع عن الوطن والالتزام بالقيم الأخلاقية. بصماته في القانون الدولي الإنساني، سواء في معاملة الأسرى، أو احترام الحريات الدينية، أو الالتزام بالعهود، تظل شاهدة على تفوق القيم الإسلامية في ترسيخ مبادئ العدالة والرحمة حتى في أحلك الظروف.
المراجع
1. القانون، للأستاذ أحمد صفوت، ط الثانية 1347هـ 1924م.
2. الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام للأستاذ علي علي منصور، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
3. القانون الدولي الخاص للدكتور علي الزيني، الاعتماد سنة 1346هـ- 1928م.
4. المعجم الوسيط في شرح وتبسيط قواعد القانون الدولي العام ، مقارنة بأحكام شريعة الإسلام، د. عبد المنعم متولي، 2008.
5. القانون الدولي العام للدكتور جنينة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة ، ط2 ، 1938م..
6. أصول القانون الدولي د. حامد سلطان، مطبوعات كلية الشريعة ، عام 1941 .
7. أصول القوانين وتطبيقاتها في القانون المصري والقوانيـن الأخرى، د. محمد كامل مرسي وسيد مصطفى بك ، ط -1342.
8. القرآن الكريم
9. قانون السلام في الإسلام دراسة مقارنة، أ.د. محمد طلعت الغنيمي، الطبعة الأولى، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1977.
10. مفهوم الفقه الإسلامي، نظام الدين عبد الحميد، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت 1984.
11. تفسير ابن كثير، طبعة البابي الحلبي.
12. تاريخ الطبري، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
13. سير أعلام النبلاء، الذهبى، تقديم: سيد حسن الفطامى، تحقيق: وجدى سعيد. مصر: المكتبة التوفيقية، 1422هـ.
14. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، بيروت: دار صادر، 1977م.
15. تاريخ الإسلام، الذهبى، بيروت: دار الكتاب العربى، 1963م.
16. الأوزاعى فقيه أهل الشام، سيد الأهل، القاهرة: طباعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1966م.
17. ميزان الاعتدال، الذهبى، بيروت: دار المعرفة، 1963م.
18. الإمام الأوزاعى محدثاً، حسين بن محمد الملاح، بيروت: المكتبة العصرية، 1993م.
19. “موعظة الإمام الأوزاعى إلي الخليفة المنصور”، د. يوسف محمد صديق، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، السنة الثامنة، العدد الثامن عشر، ذو الحجة 1412هـ/يونيو 1992م.
20. الإمام الأوزاعى، شفيق طبارة، بيروت: مطابع دار الريحانى، 1965م.
21. الرد على سير الأوزاعى، أبو يوسف، حيدر أباد: لجنة إحياء المعارف النعمانية، 1357هـ.
22. السير الكبير، محمد بن الحسن الشيباني، دار الكتب العلمية .
23. الفكر السامي، الحجوي، مطبعة إدارة المعارف بالرباط 1340 – 1345.
24. الإمام الأوزاعي فقيه أهل الشام، عبد العزيز سيد الأهل، مكتبة الاسكندرية.
25.
26. النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير، أبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، ط حجر
27. المبسوط، السرخسي، دار الكتب العلمي.
28. رسالة رسم المفتى، للشيخ محمد ابن عابدين الحنفي، المكتبة ألأزهرية.
-Paul ,Azan. (1925).L Emir Abd-el-Kader du fanatisme musulman au patriotisme
français, Paris ,Edit Hachette.
– Chikh, Abouamrane.(2000). L Emir Abd-el-Kader résistant et humaniste,
Alger,édit Hammouda
-Bennis, Mouloud. “The Algerian Prince and the Law of Armed Conflict: The Contribution of Emir Abd el-Kader to the Development of Humanitarian Law.” International Review of the Red Cross 83.842 (2001): 717-733.
– Slimani, Abderrazak. “Abd al-Qadir and the International Humanitarian Law.” McGregor Journal of Military Law 1.1 (2016): 66-79
-الملتقى الدولي: «الأمير عبد القادر والقانون الدولي الإنساني»، الجزائر، أيار/مايو 2013.
**** Compte de Vicry, p 215-216.
-بوطالب عبد القادر، الأمير عبد القادر وبناء الأمة الجزائرية، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 2009، ص 152.
-ساحلي محمد الشريف، الأمير عبد القادر فارس الإيمان، المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار، 2008.